«مع السلامة وين رايح / مع السلامة يا مِسك فايِح / مع السلامة وين بدّك / لأقعُد على دربَك ورُدَّك / طَلّت البارودة والسّبع ما طَلّ / يا بوز البارودة من دمه مُبتَلّ / طَلّت البارودِة والسبع ما اجاش / يا بوز البارودِة من دمه مرتاش / طَلَّت البارودة والسبع ما طَلّ / يا بوز البارودة من دمه مُبتّل / ما بيني وبينك سلسلة ووادي / وين رحت يا أعزّ أحبابي / مع السلامة وين رايح / مع السلامة يا مسك فايِح».
من التراث الشعبي الفلسطيني
ولا أصدق من التعبير الشعبي عن امتزاج الألم والحزن واللوعة بالفخر والكرامة وعزة النفس!
حفِظ الموروث الشعبي الفلسطيني طويلاً قصص الشهداء والشهيدات على درب الحرية، وتغنّى ببطولاتهم في الوقت ذاته الذي عبَّر فيه عن الألم لفقدانهم، وروى الحكّاؤون والحكّاءات، والفنانات والفنانون، والكاتبات والكتاب؛ قصصاً عن شجاعتهم، وإقدامهم، وأساليب نضالهم، والعقبات التي اعترضت طريقهم، وكيفية تغلبهم عليها؛ على امتداد التاريخ الفلسطيني.
وأصبحت وصاياهم، ولغة أجسادهم، وأساليب مقاومتهم المبتكرة والمبدعة؛ جزءاً جوهرياً من فعل المقاومة ذاته.
وترتبط سلسلة الأبطال بعضهم ببعض؛ الحاضر يستدعي الماضي القريب، والماضي البعيد، والماضي الأبعد. يستحضر شهيد/ة اليوم شهيد/ة الأمس، وشهيد/ة أمس أمس.
وتتفجّر قصص البطولة في الوجدان الشعبي؛ لتستقرّ عميقاً في الذاكرة.
*****
تختلط في الأذهان صورة الشباب الذين حلقوا رؤوسهم أسوة بالشاب الشهيد عدّي التميمي، حين كان مطارداً من جيش الاحتلال، حتى لا يتسنّى تمييزه؛ بصورة شباب ورجال المدن الفلسطينية؛ الذين لبّوا نداء قيادة الثورة الفلسطينية عام 1938؛ واستبدلوا الطربوش بالحطّة والعقال، حتى لا تتمكَّن السلطات البريطانية من اعتقال الثوار المتمركزين في القرى، والذين يلبسون على رؤوسهم الحطَّة والعقال، ويسهل تمييزهم حين يقومون بعملياتهم ضد سلطات الانتداب.
أذكر ولا أنسى ما روته لي والدتي عن ذكريات الطفولة في نابلس، عام 1938؛ حين كان والدها – المحامي عبد الغني عبد الهادي- أول من اعتمر الكوفية والعقال في نابلس؛ استجابة لنداء الثورة – الذي صدر بتاريخ 27 آب 1938، ونصَّ على ضرورة أن يعتمر رجال مدينة نابلس الكوفية والعقال بدلاً من الطربوش حماية للثوار – ومشى مرفوع الرأس، شامخاً، في شوارع المدينة.
وقالت: سرعان ما لبّى الشعب مطلب الثوار، أما من خالف هذا القرار فكان يتعرّض لعقابهم، وسخرية الناس:
«حطَّة وعقال بعشر قروش؛ والخاين لابس طربوش».
*****
يزخر التاريخ الفلسطيني، وعبر الصراع المتواصل، ضد الحكم العثماني، والاستعمار البريطاني، والاحتلال الاستعماري الصهيوني؛ بقصص بطولية صاحبت هذه الثورات، وعبّرت عن قيم الشعب الجماعية، وخلقت رموزاً شعبية وطنية، ذات سمات ملحمية، جسّدت هذه البطولة، التي تغنّى الناس بها، ومجّدوا أصحابها، واستخدموها في الآداب، والفنون كافة، وخاصة الشعر، والرواية، والقصة، والمثل الشعبي، والفن التشكيلي، والنحت، والغناء، والموسيقى، والرقص الشعبي (الدبكة)، والرقص التعبيري.
منها قصة «مشعل»؛ الذي شكّل رمزاً للتمرد على أوامر العثمانيين، وشكّل واحداً من الألوف الذين رفضوا الانصياع لأوامر العثمانيين في التجنيد معهم؛ لخوض الحرب العالمية الأولى، وفرّوا لاجئين إلى المغر والجبال، وبقي مطارداً؛ إلى أن ألقى الجيش التركي القبض عليه، وهو بجانب بركة ماء، مع حبيبته، ولم يتمكن من الفرار؛ بل اقتيد مرغماً للتجنيد الإجباري. وأصبحت حكايته/أغنيته (ع الأوف مشعل) عبر الحقب الزمنية التالية، رمزاً للشاب الفلسطيني المطارد والشجاع، الذي تبكيه عائلته وأحباؤه، بعد اعتقاله، والذي يموت في بلاد الغربة.
ومنها قصة «أبو جلدة والعرميط»؛ اللذين خاضا كفاحاً مسلحاً ضد الإنجليز والصهاينة، دفاعاً عن فلسطين، واعتُقلا، وحوكما، باعتبارهما قاطعَي طرق؛ لكن الشعب خلَّد سيرتهما بقصة شعبية تغنّى بها، وبقيت في الوجدان الشعبي الجمعي.
وتمتدّ قصص البطولة الفلسطينية إلى الماضي الأبعد، حيث تبرز قصة ذات الهمة: «سيرة الأميرة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب»؛ الفلسطينية المحاربة؛ «فاطمة بنت مظلوم الكلابي»، التي اشتهرت بالشجاعة والحكمة معاً، والتي قادت الجيوش ضد الرومان، وأسرت الامبراطور الروماني «ميخائيل»، ودخلت على رأس الجيوش العربية إلى القسطنطينية؛ لتتحوّل قصتها إلى أطول سيرة شعبية ملحمية، في التاريخ العربي؛ بدأت في نهاية عصر الخلافة الأموية، مع الخليفة «عبد الملك بن مروان بن محمد»، في دمشق، وانتهت في عصر الخليفة العباسي «الواثق بالله».
*****
حين يكون الشعب الفلسطيني كله أسير احتلال استعماري استيطاني، وحين يمتدّ الحصار الإسرائيلي إلى كل مدينة وقرية ومخيم فلسطيني، وحين يغتال الإسرائيليون، ويعتقلون زهرة الشباب الفلسطيني؛ نساء ورجالاً؛ تصبح مقاومة المحتل، بأشكالها كافة؛ رد فعل طبيعياً، وتصبح حماية الأبطال، وتخليد مسيرتهم الكفاحية والإنسانية؛ عبر توثيق رواياتهم، ثم إيصالها إلى العالم – بمختلف اللغات والوسائل الفنية - واجباً قومياً.
faihaab@gmail.com
www.faihaab.com
نقلًا عن جريدة "الأيام"